لا صوت يعلو على التعرفات الجمركية- قراءة في سياسة ترمب التجارية
المؤلف: عبدالرحمن الطريري09.27.2025

تتضارب الروايات التاريخية بشأن هوية صاحب المقولة الشهيرة "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، إلا أن الأرجح أنها صدرت عن أحد رجالات السياسة، فالحكمة المأثورة تقول إن الساسة هم من يقدمون على إشعال فتيل الحروب، بينما الجنرالات العسكريون يحذرون من مغبتها وعواقبها الوخيمة. وفي خضم الأحداث المتسارعة، لا يعلو في شهر أبريل الحالي صوت على قرارات التعريفات الجمركية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
والمتتبع لمسيرة الرئيس ترمب، سواء قبل وصوله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض أو خلال ولايتيه الرئاسيتين، يدرك مدى اتساقه مع خطابه المعلن، وسعيه الدؤوب لتحقيق توازن تجاري عادل لبلاده، التي تعاني من عجز يقدر بـ 200 مليار دولار لصالح دول الاتحاد الأوروبي، ومبلغ مضاعف مع جمهورية الصين الشعبية. هذا على صعيد الهدف المنشود، أما بالنسبة للطريقة والآلية المتبعة، فليس من شأني الحكم بصوابها أو خطئها.
ومما لا ريب فيه أن الرئيس ترمب ليس من دعاة الحروب، وحتى ضرباته العسكرية ما هي إلا ورقة من أوراق التفاوض الرابحة، وقد يكون الأمر سيان بالنسبة للتعريفات الجمركية، فالانطلاق برفع سقف المطالب في المفاوضات هو منهج يتبناه بقوة، ويؤمن بجدواه كما صرح في كتابه "فن عقد الصفقات".
ولدى التمعن في ردود الأفعال المتباينة على مختلف المستويات، وتحديدًا من جانب أوروبا وأستراليا والصين، يصبح من الضروري العودة قليلًا إلى صفحات الماضي، واستقراء تاريخ التعريفات الجمركية في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يرجع إلى العام 1789 مع تأسيس النظام الفيدرالي. وفي القرن التاسع عشر، تم استخدامها كأداة اقتصادية وسياسية ذات أهمية بالغة، خاصة لحماية الصناعات الناشئة في الولايات الشمالية.
وعقب فترة الكساد الكبير في العام 1929، بدأت الحكومة الأمريكية تبحث عن سبل ووسائل لحماية الصناعات المحلية وتعزيز الاقتصاد الوطني، فتم إقرار قانون التعريفات الجمركية المعروف باسم "قانون سموث هارلي" في العام 1930. وبغض النظر عن الهدف الظاهر لحماية المنتجين الأمريكيين من خلال زيادة التعريفة على 25% من السلع المستوردة، فقد أدى ذلك إلى ردود فعل غاضبة وعنيفة من العديد من الدول، مما ألحق ضررًا فادحًا بحركة التجارة الدولية وزاد من حدة الركود الاقتصادي، وعظم الأثر السلبي للكساد الكبير.
إن التعريفة الجمركية التي فرضها ترمب على بعض الدول، مع إتاحة الفرصة للتفاوض مع دول أخرى لتحقيق صفقات أكثر إنصافًا وعدالة، هي بمثابة مدخل ضمن تركيبة كيميائية معقدة، يسعى من خلالها إلى تحقيق وضع اقتصادي أفضل، يعتمد بشكل أساسي على هدفين رئيسيين، وهما رفع مستوى الإنتاجية داخل الولايات المتحدة وزيادة القدرة الاستهلاكية على المدى الطويل. وتأتي هذه التعريفات أيضًا مصحوبة بباقات تحفيزية لجذب المستثمرين الأجانب لزيادة استثماراتهم داخل الولايات المتحدة.
وبالتالي، يطمح ترمب إلى الخروج من عنق الزجاجة، وتجاوز مرحلة الدين العام المرتفع الذي ورثته حكومات أمريكية متعاقبة، والتي استنفدت بدورها العديد من الخيارات التمويلية المتاحة. وهذا أيضًا يفسر سعيه الحثيث لإيجاد حلول اقتصادية للتواجد العسكري المكلف في مختلف أنحاء العالم، عبر العديد من القواعد العسكرية المنتشرة. ورغم أن هذا النقاش يحتدم بشكل أكبر في أوروبا، إلا أن الأوروبيين أنفسهم يعلمون أن التراجع عن الدعم العسكري المطلق والمجاني قد بدأ يظهر جليًا في عهد الإدارات الديمقراطية خلال العقدين الماضيين.
تتباين التحديات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي وأكبر اقتصادين متأثرين، وهما الصين وأوروبا، خاصة على مستوى الأوراق التي يمتلكها كل اقتصاد بما يتجاوز مجرد التعريفة المضادة. فالصين على سبيل المثال، لوحت بورقتي تعطيل صفقة "تيك توك" والتلويح بالحد من صادرات المعادن الثمينة، التي تصدر أكثر من 70% من إنتاج العالم، وتعد مدخلًا أساسيًا في عدد كبير من المنتجات، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي.
بيد أن الصين تعاني من جانب آخر من مشكلة بنيوية متأصلة، وهي ضعف الطلب المحلي، وتسلك هي والاتحاد الأوروبي مسارًا يتسم بتحفيز الطلب الخارجي. ورغم أن المشكلة أقل تأثيرًا على أوروبا، إذ لم يعارض مشروع "ماريو دراجي" رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق لتحفيز الطلب الداخلي وزيادة الاستثمارات الصناعية سابقًا سوى ألمانيا، إلا أنها تبدو الآن أقل تحفظًا من ذي قبل.
ومن بين الكلمات المؤثرة التي قالها دراجي، حسب الفايننشال تايمز: "لم يسبق في الماضي أن بدا حجم بلداننا صغيرًا وغير كافٍ إلى هذا الحد مقارنة بحجم التحديات"، وهو تصريح يعود إلى ما قبل حسم الانتخابات الأمريكية في العام الماضي.
وعلى الصعيد الأمريكي، يبرز تحد آخر يتمثل في أن الولايات المتحدة تستورد المنتجات، لكنها في المقابل تصدر الخدمات، وهذا ما قد يضر بالشركات التقنية في أوروبا. والأمر الآخر هو أن الرد الأوروبي يبدو مصممًا خصيصًا على مقاس الناخب الجمهوري، عبر توجيه ضربة موجعة لولايات حزام الذرة، وسيكون تفعيل هذا الرد في منتصف أبريل الجاري، أما الموجة الثانية فستضرب ولايات الحزام الحديدي، وبالتالي ستطال صناعات الصلب والألمونيوم والأجهزة الإلكترونية.
والأرجح أن المرحلة المقبلة لن تشهد الكثير من العناد والمكابرة، بل ستشهد بدلًا من ذلك إعفاءات وتوازنات ومقاربات جديدة، بعد أن تنضج الذرة وتتحول طاولة المفاوضات إلى ساحة لتلاقي المصالح المشتركة.
والمتتبع لمسيرة الرئيس ترمب، سواء قبل وصوله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض أو خلال ولايتيه الرئاسيتين، يدرك مدى اتساقه مع خطابه المعلن، وسعيه الدؤوب لتحقيق توازن تجاري عادل لبلاده، التي تعاني من عجز يقدر بـ 200 مليار دولار لصالح دول الاتحاد الأوروبي، ومبلغ مضاعف مع جمهورية الصين الشعبية. هذا على صعيد الهدف المنشود، أما بالنسبة للطريقة والآلية المتبعة، فليس من شأني الحكم بصوابها أو خطئها.
ومما لا ريب فيه أن الرئيس ترمب ليس من دعاة الحروب، وحتى ضرباته العسكرية ما هي إلا ورقة من أوراق التفاوض الرابحة، وقد يكون الأمر سيان بالنسبة للتعريفات الجمركية، فالانطلاق برفع سقف المطالب في المفاوضات هو منهج يتبناه بقوة، ويؤمن بجدواه كما صرح في كتابه "فن عقد الصفقات".
ولدى التمعن في ردود الأفعال المتباينة على مختلف المستويات، وتحديدًا من جانب أوروبا وأستراليا والصين، يصبح من الضروري العودة قليلًا إلى صفحات الماضي، واستقراء تاريخ التعريفات الجمركية في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يرجع إلى العام 1789 مع تأسيس النظام الفيدرالي. وفي القرن التاسع عشر، تم استخدامها كأداة اقتصادية وسياسية ذات أهمية بالغة، خاصة لحماية الصناعات الناشئة في الولايات الشمالية.
وعقب فترة الكساد الكبير في العام 1929، بدأت الحكومة الأمريكية تبحث عن سبل ووسائل لحماية الصناعات المحلية وتعزيز الاقتصاد الوطني، فتم إقرار قانون التعريفات الجمركية المعروف باسم "قانون سموث هارلي" في العام 1930. وبغض النظر عن الهدف الظاهر لحماية المنتجين الأمريكيين من خلال زيادة التعريفة على 25% من السلع المستوردة، فقد أدى ذلك إلى ردود فعل غاضبة وعنيفة من العديد من الدول، مما ألحق ضررًا فادحًا بحركة التجارة الدولية وزاد من حدة الركود الاقتصادي، وعظم الأثر السلبي للكساد الكبير.
إن التعريفة الجمركية التي فرضها ترمب على بعض الدول، مع إتاحة الفرصة للتفاوض مع دول أخرى لتحقيق صفقات أكثر إنصافًا وعدالة، هي بمثابة مدخل ضمن تركيبة كيميائية معقدة، يسعى من خلالها إلى تحقيق وضع اقتصادي أفضل، يعتمد بشكل أساسي على هدفين رئيسيين، وهما رفع مستوى الإنتاجية داخل الولايات المتحدة وزيادة القدرة الاستهلاكية على المدى الطويل. وتأتي هذه التعريفات أيضًا مصحوبة بباقات تحفيزية لجذب المستثمرين الأجانب لزيادة استثماراتهم داخل الولايات المتحدة.
وبالتالي، يطمح ترمب إلى الخروج من عنق الزجاجة، وتجاوز مرحلة الدين العام المرتفع الذي ورثته حكومات أمريكية متعاقبة، والتي استنفدت بدورها العديد من الخيارات التمويلية المتاحة. وهذا أيضًا يفسر سعيه الحثيث لإيجاد حلول اقتصادية للتواجد العسكري المكلف في مختلف أنحاء العالم، عبر العديد من القواعد العسكرية المنتشرة. ورغم أن هذا النقاش يحتدم بشكل أكبر في أوروبا، إلا أن الأوروبيين أنفسهم يعلمون أن التراجع عن الدعم العسكري المطلق والمجاني قد بدأ يظهر جليًا في عهد الإدارات الديمقراطية خلال العقدين الماضيين.
تتباين التحديات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي وأكبر اقتصادين متأثرين، وهما الصين وأوروبا، خاصة على مستوى الأوراق التي يمتلكها كل اقتصاد بما يتجاوز مجرد التعريفة المضادة. فالصين على سبيل المثال، لوحت بورقتي تعطيل صفقة "تيك توك" والتلويح بالحد من صادرات المعادن الثمينة، التي تصدر أكثر من 70% من إنتاج العالم، وتعد مدخلًا أساسيًا في عدد كبير من المنتجات، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي.
بيد أن الصين تعاني من جانب آخر من مشكلة بنيوية متأصلة، وهي ضعف الطلب المحلي، وتسلك هي والاتحاد الأوروبي مسارًا يتسم بتحفيز الطلب الخارجي. ورغم أن المشكلة أقل تأثيرًا على أوروبا، إذ لم يعارض مشروع "ماريو دراجي" رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق لتحفيز الطلب الداخلي وزيادة الاستثمارات الصناعية سابقًا سوى ألمانيا، إلا أنها تبدو الآن أقل تحفظًا من ذي قبل.
ومن بين الكلمات المؤثرة التي قالها دراجي، حسب الفايننشال تايمز: "لم يسبق في الماضي أن بدا حجم بلداننا صغيرًا وغير كافٍ إلى هذا الحد مقارنة بحجم التحديات"، وهو تصريح يعود إلى ما قبل حسم الانتخابات الأمريكية في العام الماضي.
وعلى الصعيد الأمريكي، يبرز تحد آخر يتمثل في أن الولايات المتحدة تستورد المنتجات، لكنها في المقابل تصدر الخدمات، وهذا ما قد يضر بالشركات التقنية في أوروبا. والأمر الآخر هو أن الرد الأوروبي يبدو مصممًا خصيصًا على مقاس الناخب الجمهوري، عبر توجيه ضربة موجعة لولايات حزام الذرة، وسيكون تفعيل هذا الرد في منتصف أبريل الجاري، أما الموجة الثانية فستضرب ولايات الحزام الحديدي، وبالتالي ستطال صناعات الصلب والألمونيوم والأجهزة الإلكترونية.
والأرجح أن المرحلة المقبلة لن تشهد الكثير من العناد والمكابرة، بل ستشهد بدلًا من ذلك إعفاءات وتوازنات ومقاربات جديدة، بعد أن تنضج الذرة وتتحول طاولة المفاوضات إلى ساحة لتلاقي المصالح المشتركة.